بقلم _عبد الله الحمزاوي: باحث في الدراسات السياسية والدولية –المغرب-
منذ القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي تعرضت سواحل الأقطار المغاربية إلى العديد من الغارات الإسبانية، الأمر الذي دفع هذه الدول باستثناء المغرب إلى طلب النجدة من العثمانيين وقد كان “لإخوان بربروسا” أحد قراصنة البحار بالأبيض المتوسط آنذاك دور مهم في التصدي للإسبان.
للإشارة فقراصنة البحار هؤلاء الذين نزلوا بالجزائر عام 1492م أعلنوا ولائهم للسلطان سليم العثماني صراحة عام 1519م الأمر الذي دفع العثمانيين إلى إعطاء لقب “بجلربك” أي أمير الأمراء لزعيم القراصنة كما عملوا على إمداده بألفين من الانكشارية [رجال العسكر الترك] وعدد من العتاد الحربي وقد تمكن القراصنة من منع الإسبان وصد غاراتهم المتوالية ليتمكن بذلك “بربروسا” من إخضاع وفتح المناطق التي احتلها الإسبان عام 1529م ومنذ هذا التاريخ أصبح العثمانيون يتحكمون في شؤون الدولة الجزائرية[1]. أما ليبيا فقد خضعت للتدخل العثماني خلال الفترة الممتدة ما بين (1551م و 1911م)ويرجع السبب برأي البعض إلى ذهاب وفد ليبي إلى السلطان سليمان القانوني لطلب الشكوى ضد ما أقدمت عليه إسبانيا بتسليم طرابلس الغرب للقديس يوحنا[2].
وبالنسبة لتونس فقد خضعت بدورها للتدخل العثماني خلال الفترة ما بين (1574م و 1815م)[3] للإشارة فالدولة التونسية التي أصبحت مقاطعة جديدة للعثمانيين كانت تتميز إداريا عن جاراتها الجزائر وطرابلس بكونها مقاطعة تدعى بالوجق أو السنجق مما يضفي عليها طابعا عسكريا بحيث كان عسكر الأتراك (الانكشارية) هو القائم على إدارة شؤون البلاد، وقد كان شغل المسئولين عن المقاطعة هو تحصيل الموارد الضرورية لحاجيات الدفاع وتسديد رواتب الجند وممثلي السلطة التركية المستقرين فوق أراضي تونس[4]. هذا الأمر ينم عن وجود جدل حول طبيعة التدخل العثماني، فما هو مضمونه إذن؟
تختلف التحليلات حول دراسة الوجود العثماني بين مدافع عن الطابع الخليفي للدولة العثمانية، مما يعني أن مقصدية التدخل هو الدفاع عن أرض الإسلام وتحقيق الحكم الإسلامي وهو ما جعل البعض يصف الثورات ضد التواجد العثماني بنوع من العمالة للغرب[5]. أما الطرح الثاني فيعتبر الدولة العثمانية بمثابة كيان استعماري مصلحي ساهم في تدمير قوة العرب، وتستند حجج هذا الطرح حول عدم الإجابة عن مجموعة من التساؤلات حول الوجود العثماني أبرزها: إذا كانت الدولة العثمانية دولة خلافة ولها دور إيجابي على الأقل بالمنطقة المغاربية، فلماذا لم تعلن الحرب على فرنسا عندما انتزعت الجزائر عام 1830م ثم تونس عام 1881م؟
زيادة على هذا لم تقدم الدولة العثمانية حتى على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا . والتساؤل الأخر هو لماذا لم تأخذ الدولة العثمانية على عاتقها مهمة ضم المغرب الأقصى طوال ثلاثة قرون كاملة تلت وجودها بالجزائر؟[6] كما أن سياسة التتريك خلال الفترة ما بين (1908م و 1914م). تؤكد على استعمارية الأتراك.
إن الانحطاط الذي شهده العالم العربي قد لا يبرر بالتدخل العثماني خصوصا أن المغرب الذي لم يخضع للعثمانيين قد أصيب بانحطاط أعمق[7] زيادة على ذلك تعتبر المرحلة العثمانية إيجابية نظرا للدور التوحيدي لمنطقة المغرب الكبير على الأقل الأقطار الثلاثة تونس والجزائر وليبيا لكن مع ذلك يظل التدخل العثماني ضمن دائرة التوسع على حساب مصالح المنطقة العربية والمغاربية تحديدا، لهذا نجد فكرة الحدود بين دول المنطقة قد تكرست خلال العهد العثماني[8]. فبعض الدراسات توضح بشكل دقيق هذه المسألة وذلك بالقول ” يعتبر الأتراك والسلطان سليمان القانوني (1520م-1566م) بالضبط أول من دعا الى إقامة حدود جيو- سياسية بين المغرب الأقصى والأوسط. وهذا غريب فعلا لأنه يمثل خرقا للقاعدة السياسية في النظام الإسلامي التي تنص على إجبارية الوحدة وخروجا عن التقليد في الممارسة السياسية عند أمراء المسلمين الذين لم يجرؤوا رغم الوضع المتعدد الذي كانوا عليه على الدعوة إلى الحدود الجيو- سياسية بينهم، كما يمثل شذوذا بالنسبة للسلطان التركي الذي يمثل على مستوى الواقع نظام الخلافة الذي هو نظام وحدوي في عقيدته”[9] إلى جانب ذلك يمكن اعتبار الدولة العثمانية كيانا استعماريا بناء على مجموعة من الحجج، منها قيام عدة انتفاضات وثورات ضد التسلط العثماني أبرزها ما عرف ب “ثورات تونس” وقد كانت ما بين نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن الثامن عشر نتيجة لسياسات التسلط والظلم العثماني[10] إلى جانب ذلك شهدت الجزائر كذلك عدة انتفاضات وثورات أبرزها ثورة عام 1805م بسبب المشاكل الاقتصادية للبلاد. وقد كان من نتائجها قيام الداي “علي خوجه” بخلع النفوذ العثماني وإسباغه بطابع وطني محلي[11]. كما أن التمييز الحقوقي الذي مارسه الأتراك باحتكارهم للمناصب الأساسية دون التعامل مع العرب كشركاء لهم ينم عن الطابع الاستعماري والمصلحي، أما عملية التوحيد الجزئية للمنطقة المغاربية فإنها كانت قسرية وبواسطة الهيمنة والقوة[12] وذلك لما فيها من المصالح العثمانية لا غير يقول الباحث التونسي محمد عبد الباقي الهرماسي “من الواضح أن الأتراك حكموا الجزائر دون محاولة ربط هذا المجتمع بحكمهم، وأن العلاقة مع السكان كانت نفعية بحتة دون أي محاولة للتوحيد السياسي. إن هذا الاتجاه يفسر العدد الكبير للكيانات المستقلة أو شبه المستقلة داخل الجزائر”[13] نفس الاتجاه يؤكده المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله بتحدثه عن الصورة القاتمة للحكم العثماني بقوله “كان العثمانيون غزاة مجاهدين تحالفوا مع الجزائريين لصد العدوان الصليبي وحماية الثغور وإقامة حكم إسلامي ثابت وقوي ظل طوال ثلاث قرون شوكة في حلق العدو وفذى في عينه وصخرة تحطمت عليها كل محاولات الغزو الخارجي”[14] لكن هذا التلاحم برأي سعد الله لم يكن إلا لتلاقي مصالح الأتراك مع الجزائريين في صد التحديات الخارجية بقوله “وقد ضل الجهاد هو العامل الموحد الأساسي بينهم… ورغم أن معاملة الجزائريين لهم كانت على أساس الأخوة الإسلامية فإنهم قد جعلوا الحكم تركيا وليس حكما إسلاميا، فلم يشركوا الجزائريين معهم فيه، بل احتكروه لأنفسهم طيلة ذلك التاريخ، وجعلوا أنفسهم أوصياء على شعب يفوقهم عددا وحضارة وشجاعة”[15] مما يعني أن الوحدة بين العرب والترك ضلت شكلية لأن الوجود العثماني إذا كانت ورائه مبررات دولية في القرن العاشر الهجري فإنه لم يبق له مبررات في القرنيين الحادي والثاني عشر الهجري لا سميا بعد تراجع المد الإسباني والبرتغالي كما أن العثمانيين كانت لهم نبرة عنصرية تمييزية مؤكدة يقول سعد الله “ولا يساوون في تطبيق أحكام الشريعة بين المسلم الجزائري والمسلم العثماني… كما كانوا في معظم الأحيان جهلة لا يعرفون حتى القراءة والكتابة… كما كانوا جفاة غلاظا امتاز عهدهم بالعنف الدموي وقصر فتراتهم وبالفوضى وانتشار الرشوة والظلم والفساد[16].
هذا الرأي نجده كذلك في مذكرات السفراء المغاربة لدى الترك من بينهم سفير السلطان العلوي محمد الثالث أبو القاسم الزياني إلى السلطان العثماني عبد الحميد الأول بحيث قال في شأن مدينة بسكرة الجزائرية ” أحسن المدن لكثرة مرافقها… وبها مساجد معتبرة البناء وأهلها تحت قهر الترك ومذلة العرب”[17].
ونظرا لما لحق العثمانيين خلال القرنيين 18 و 19 من وهن راجع إلى صعوبات مالية تجلت في ارتفاع الضرائب وابتزاز الموظفين[18] ستدخل الدولة العثمانية في اضطرابات اجتماعية مست الانكشارية بحيث أصبحت أجورهم تتأخر لتمتد هذه الاضطرابات إلى صفوف الحرفيين والتجار والفلاحين[19] هذه المشاكل الداخلية وأخرى حصلت نتيجة تصادم العثمانيين بالتوسعات الأوربية جعلت الدولة التركية تتحول إلى رجل مريض حسب تعبير “نكولا الأول” قيصر روسيا في رسالة للسفير الانجليزي “هاملتون سيمور” عام 1853م بقوله “إننا نحمل بين أيدينا رجلا مريضا جدا، وأقول لكم بكل صراحة بأن المصيبة ستكون كبيرة إذا لم نتخذ الإجراءات الضرورية خلال الأيام القليلة القادمة”[20] يلاحظ إذن أن الضعف الذي حصل للعثمانيين قد جاء نتيجة سياساتهم العنصرية مما سيجعلهم يفقدون العديد من الموارد التابعة لهم بما في ذلك موارد المنطقة المغاربية يقول أبو القاسم الزياني “ولم يزل أمر هذه الدولة العثمانية (أواخر القرن 18) يضعف وهي في مرض من الأيام وهم يعالجون مرضهم بالسياسة والتدبير… وحتى الممالك التي تحت حكمهم ببلاد العرب لا ينتفعون منها بشيء، ولا يجئ لهم منها إلا الدعاء على المنابر ورسمهم على الدنانير”[21]، هذه التحولات جعلت الدولة العثمانية تعجز عن حماية الأقطار الخاضعة لها[22]. الأمر الذي أفسح المجال إلى التدخل الأوربي الذي بدأ باحتلال الجزائر عام 1830م وتلتها تونس عام 1881.
[1]– محمود السيد: تاريخ دول المغرب العربي، ، ص 163.
[2]– محمود علي عامر ومحمد خير فارس: تاريخ المغرب العربي الحديث (المغرب الأقصى وليبية) جامعة دمشق د.ت.ن.، ص 159.
[3]– محمد الهادي الشريف: تاريخ تونس من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال، م.س، ص 68 وبعدها.
[4]– محمد الهادي الشريف: م.س، ص 68.
[5]– من أبرز الكتابات المدافعة عن العثمانيين انظر مؤلف محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العثمانية، دار الجيل بيروت 1977م.
[6]– حول هذه التساؤلات انظر مسعود ظاهر، مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي، دار كنعان للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، دمشق 1994، ص 46.
[7]– سمير أمين: أزمة المجتمع العربي، دار المستقبل العربي، ط الأولى القاهرة 1985، ص 184.
[8]– عن دور الاستعمار التركي في ترسيخ مبدأ الحدود، انظر عبد الله إبراهيم، صمود وسط الإعصار، محاولة لتفسير تاريخ المغرب الكبير، النجاح الجديدة، البيضاء 1982، ص 109.
وكذلك امحمد المالكي: حول مشروع وحدة المغرب العربي الكبير، مقاربة لبعض عناصر الخطاب، مجلة شؤون عربية، عدد 49 الأمانة العامة للجامعة العربية القاهرة 1987، ص 22.
[9]– أحمد العماري: خلفيات الحدود الجيو-سياسية للأتراك والفرنسيين تجاه وحدة المغرب الكبير، عدد خاص لمجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس 1985، ص 164.
[10]– محمد الهادي الشريف، م.س، ص 70-71.
[11]– محمد الهادي الشريف: تاريخ دول المغرب العربي، م.س، ص 167.
[12]-: محمود السيد م.س، ص 68.
[13]– محمد عبد الباقي الهرماسي: المجتمع والدولة في المغرب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى بيروت 1987، ص 29.
[14]– أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي، الجزء الأول، د.د.ن الطبعة الثانية، الجزائر 1985، ص 11.
[15]– أبو القاسم سعد الله، م.س، ص 11.
[16]– نفس المرجع أعلاه.
[17]– قدور بوزياني: صورة العثمانيين في كتابات بعض الرحالة الحضارية في مؤلف أدب الرحلة في التواصل الحضاري، مرجع سابق، ص 240.
[18]– حول هذه المتغيرات انظر المرجع الآتي:
Robert mantran- histoire de l’empire ottoman, fayard paris 1989, p 257.
[19]-نفس المرجع السابق، ص 258
[20]– المرجع نفسه، ص 501.
[21]– أبو القاسم الزياني: البستان الظريف في دولة مولاي شريف، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، الرباط 1992م، ص 356.
[22]– حول حالات العجز والانحطاط الذي أصاب العثمانيين انظر أرنولد توينبي، تاريخ البشرية، الجزء الثاني، تعريب نقولا زيادة، الأهلية للنشر، الطبعة الأولى القاهرة 1986، ص 234.