خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية هو عنوان مؤتمرنا الثالث والعشرين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف ، حيث يأتي عقد هذا المؤتمر في مرحلة دقيقة وفارقة من تاريخ أمتنا العربية بصفة عامة وتاريخ جمهورية مصر العربية بصفة خاصة ؛ في أعقاب ثورتين مرت بهما جمهورية مصر العربية ، هما : ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م ، والثلاثين من يونيه 2013م ، في وقت تستعيد فيه مصر مكانتها التاريخية وقيمها الحضارية التي لا تعرف سوى التسامح الذي يحمل لواءه بقوة ووضوح أزهرها الشريف .
غير أننا في مصر عانينا – كما عانى غيرنا في دول المنطقة وفي الكثير من دول العالم – أشد المعاناة من موجات التشدد باسم الدين ، واقتحام غير المتخصصين لساحات الدعوة والفتوى ، وتوظيف الدين لأغراض سياسية مما جعلنا نقرر وبقوة النأي بالدعوة والفتوى معًا عن أي توظيف سياسي أو صراعات حزبية أو مذهبية ، قد تتاجر باسم الدين أو تستغل عاطفة التدين لتحقيق مصالح خاصة حتى لو كان ذلك على حساب أمننا القومي .
والذي لا شك فيه أن أي موجات للتشدد أو العنف أو الإرهاب أو الإسراع في التكفير إنما تنعكس سلبًا على قضايا الوطن وأمنه واستقراره ومصالحه العليا من جهة ، وعلى علاقاته الدولية من جهة أخرى ، حيث يصبح الخوف من عدوى التشدد هاجسًا كبيرًا لدى الأوطان والدول الآمنة المستقرة ، في وقت صار العالم فيه قرية واحدة ما يحدث في شماله يؤثر في جنوبه ، وما يكون في شرقه نجد صداه في غربه ، بل إن تأثير الجهات الأربع يتداخل ويتوازى ويتقاطع بشدة في ظل معطيات التواصل العصري عبر شبكات التواصل المتعددة التي لم يعد بوسع أحد تفادي أصدائها وتأثيراتها .
وقد حذر العلماء من خطورة إطلاق التكفير دون دليل قاطع ، فقال الإمام الشوكاني (رحمه الله) : إن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دينه ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، وفي التأكيد على خطورة التكفير والتحذير من إطلاقه بدون حق يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ) : ” أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ . فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ” ( أخرجه البخاري ومسلم ) .
والذي لا شك فيه أيضًا أن روح التسامح والوعي بمقتضيات فقه التعايش من خلال المشتركات الإنسانية والتواصل الحضاري في ضوء الاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب من جهة ، وبين الطوائف المتعددة في المجتمع الواحد من جهة أخرى ، إنما تنعكس إيجابًا على المصالح العليا للوطن من حيث الأمن والاستقرار ، والتقدم والرخاء ، بما يؤدي إلى مستقبل أفضل ، والرقي إلى مصاف الأمم المتقدمة ، وأن هذه الروح هي أصل من أصول الدين حيث قام التشريع الإسلامي على اليسر ورفع الحرج ، يقول الحق سبحانه وتعالى : ” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” (البقرة : 185) ، ويقول سبحانه: ” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ” (الحج : 78) ، ويقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ ” (صحيح مسلم) ، وما خُيّر (صلى الله عليه وسلم ) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ولا قطيعة رحم ، فإن كان إثمًا أو قطيعة رحم كان ( صلى الله عليه وسلم ) أبعد الناس عنه .
غير أن اقتحام غير المتخصصين لعالم الدعوة ، وتصدرهم بغير حق لمجال الفتوى أدى إلى كثير من الضلال والإضلال والانحراف ، وصدق نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) إذ يقول : ” إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ” (صحيح البخاري) .
ومن هنا كان اختيار موضوع ( خطورة الفكر التكفيري والفتوى بدون علم على المصالح الوطنية والعلاقات الدولية ) عنوانًا لهذا المؤتمر ، قصد تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى كثير من الشباب والجماعات المتطرفة التي اتخذت من تكفير الآخر أو تخوينه أو اتهامه في دينه أو وطنيته وسيلة للتخريب والإفساد في الأرض ” وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ” (البقرة : 205 ) .
وإننا إذ نقيم هذا المؤتمر نؤمّل أن يقدم حلولا جذرية وإسهامًا جادًا في القضاء على الفكر التكفيري وفوضى الفتاوى التي تضر بالمصالح الوطنية والعلاقات الدولية.