كان عهد الإمبراطور قسطنطين العظيم هو النقطة الفاصلة في تاريخ المسيحية، فقد اصبحت المسيحية اخيرا و بعد اكثر من 300 سنة من الضعف و الصراع هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، و سرعان ما تم خلع قناع الضعف و المسكنة الذي ارتدته المسيحية لمدة ثلاث قرون و ظهر الوجه الحقيقي الذي كان مختبئ متحينا الفرصة للظهور، فبمجرد انتقال ميزان القوة للمسيحية بدأ الهجوم علي بقايا الوثنية في الإمبراطورية و زاد اضهاد الوثنية بشدة في فترة حكم الإمبراطور جوليانوس المرتد (332-363م) و الذي تسبب ارتداده إلي الوثنية في موجة من الغضب الشعبي المسيحي تجاه الديانات الوثنية و اتباعها و معابدها، فقد حدث في مصر أن تعدي الغوغاء المسيحيين من رهبان مريوط ووادي النطرون علي افراد الطبقة الأرستقراطية السكندرية من اتباع ديانة سيرابيس، كما هاجمت كتائب القديس شنودة من الرهبان في مدينة “بانوبوليس” (أخميم الحالية) الباقيين من اتباع الديانات المصرية القديمة في الأقصر و باقي مراكز الصعيد الوثنية و شرعوا في تحويل المعابد المصرية إلي كنائس، و لا عجب في ذلك من اتباع نظام الرهبنة، فالرهبان ماهم إلا مجموعة من المتعطلين الجهلة الجبناء الذين اتجهوا إلي الرهبنة هربا من مشاكل الحياة و اضهاد الأقوي لهم عوضا عن مواجهة مشاكلهم و حلها، بأختصار هم مجموعة من الفشلة الذين عجزوا عن مواجهة صعوبات حياتهم فأنعزلوا عن هذه الحياة و سلموا عقولهم إلي أشخاص ليبلوروهم و يستخدموهم كما يشائون، و غالبا ما كان المسار اللذي يستخدمونهم فيه هو مسار قمع المخالف و اضهاده، و قد تفننت الكنائس في اثناء القرن الرابع و الخامس الميلاديين في اختراع هذا المخالف التي تشابهت طرقها في اضهاده ما بين استخدام رهبانها و غوغائها في قمعه بالقوة أو تكفيره و اعلانه هرطيق و طرده من رحمة الكنيسة أو تقليب الدولة لتتولي هي عملية اضهاده كخائن ضد الإمبراطورية، و علي الرغم من تشابه الطرق القمعية إلا أن مسميات الخصوم قد اختلفت ففي البداية كان الخصوم هم الوثنيين ثم بدأ نفوذ الكنائس في الأزدياد فبدأ ظهور ما يعرف بالأنشقاق المذهبي الذي لم يظهر إلا عندما اصبحت الكنيسة قوية بعد عصر قسطنطين فظهرت الأريوسية و النسطورية و الغنوصية و الدوقاطية و غيرهم من المذاهب الفكرية التي اختلفت مع المذهب الرسمي الذي اعتنقته الكنائس الكبري في الإمبراطورية الشرقية و الغربية فقامت هذه الكنائس بسحقها بلا هوادة بحجة الحفاظ علي الوحدة المذهبية ووحدة الأيمان و غيرها من التبريرات الواهية التي غطت الغرض الرئيسي الا وهو الحفاظ علي قوة و ثروة هذه الكنائس التي كانت ستضيرها بلا شك هذه الأنشقاقات، و حينما تخلصت الكراسي المسيحية الكبري من هذه المذاهب لم تجد إلا بعضها لتتغذي عليه، فبدأ عصر الأنفصال و الشقاق بين هذه الكنائس التي تصارعت علي مركز الريادة في العالم المسيحي إلي أن استتب الأمر اخيرا لكنيسة روما التي زاد نفوذها بشدة لتسيطر علي مجريات التاريخ في أوروبا طوال فترة العصور الوسطي.
سأتحدث في هذا المقال عن أحد اهم المجرمين في تاريخ الكنيسة إلا و هو البطريرك كيرلس (سيريل) الأول و هو البطريرك الرابع و العشرون من اباء كنيسة الأسكندرية الذي لقب بألقاب عديدة أشهرها “عمود الدين” و “العظيم” و قد اشتهر اسمه في تاريخ المسيحية بقضائه علي مذهب “نسطور” بطريرك القسطنطينية و اكماله لمسيرة خلفه البطريرك ثيوفيليوس في قمع الوثنية و القضاء علي بقايا العلوم و الفلسفة الإغريقية و اخيرا درة اعماله الأجرامية الا و هي قتل العالمة السكندرية هيباتيا في عهده و غالبا بأيعاذ منه، الأمر الذي كان له اكبر الأثر في اطفاء شعلة العلم في مراكز العالم الهيليني و مهد لدخول العالم إلي ما يقرب من 1000 عام من عصور الظلام، و قد قامت الكنيسة برسمه قديسا بعد موته و تحتفل الكنيسة القبطية بذكراه في الثالث من شهر أبيب المصري الموافق 10 يونيو من الشهور الميلادية بينما تحتفل الكنائس الكاثوليكية بذكراه في الثامن و العشرون من يناير.
ولد كيرلس ما بين عامي 375 و 380م و هو ابن اخت البطريرك السابق “ثيوفيليوس” الذي تولي تربيته و تعليمه العلوم اللاهوتية في الإسكندرية و عندما شب ارسله ليترهبن في دير مكاريوس بوادي النطرون الذي قضي به خمس سنوات ثم تتلمذ علي يد احد الأساقفة و يسمي سيرابيون و بعد ان اتم فترة تعليمه عاد إلي الأسكندرية و قام خاله بترسيمه شماسا و عينه واعظا في الكنيسة و سكرتيرا له مما مهد له الطريق ليصبح بطريركا بعد وفاة خاله سنة 412م، و علي الرغم من أن منافسه علي كرسي البطريركية رئيس الشمامسة “تيموثايوس” كان يتمتع بدعم الحكومة المدنية الممثلة في الحاكم الروماني كيرلس“أوريستيس” إلا أنه فاز، و من الواضح أن القرابة للبطريرك السابق كان لها دور كبير في فوزه بالكرسي البطريركي، بالأضافة بالطبع إلي أن الكنيسة لم تكن لتسمح للحاكم المدني المسيحي المتفتح الذي كان صديق مقرب للفيلسوفة هيباتيا (و تلميذها حسب بعض المصادر) و الذي كان يتمتع بحب و احترام بقايا الوثنيين في المدينة بالتدخل في اختيار بطريرك متسامح ينشر المحبة و التعايش السلمي في الأسكندرية، و قد حدث ان فاز بالكرسي البابوي بعد ثلاثة ايام فقط من موت ثيوفيليوس ليجلس علي كرسي الكرازة المرقسية فترة 32 عاما كانت مليئة بالصراعات و المشاكل.
بمجرد توليه الكرسي البطريركي قام كيرلس بتكوين جيش من الأتباع المخلصين مكون من مجموعات من حثالة المجتمع كالعبيد و الخدم و المنبوذين بالأضافة إلي جماعات من الرهبان ينتمون إلي الأديرة القريبة للأسكندرية و كان يطلق علي هؤلاء الأتباع “بارابولاني” و هي كلمة تعود بأصولها إلي تعبير يوناني يعني “الذين لا يقيمون وزنا للحياة الدنيا” أو بمعني اكثر بساطة “انتحاريين”، و هي جماعة ظهرت حسب بعض الأراء في عهد البطريرك ديونيسوس في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي و كانت وظيفتهم مساعدة المرضي من فقراء المسيحيين و دفن الموتي اثناء وباء الطاعون الذي ضرب الأسكندرية في هذه الفترة، و منذ ذلك الوقت و هم يخدمون تحت سلطة البابا و كان اباء الكنيسة يستخدمون بعضهم كحراس شخصيين و احيانا كانوا يزجوا بهم في الأحداث التي تستدعي القمع بالقوة، و كان وجودهم في الأماكن العامة مثل المسارح و غيرها مجرم قانونيا بسبب سلوكهم المتعصب العنيف، و قد كان اول تنظيم لهذه الجماعة بواسطة كيرلس الذي كان يلهب عقولهم الجاهلة الغبية بعظاته ضد الوثنيين و اتباع الفلسفة الأفلاطونية الحديثة التي تسببت في العديد من احداث العنف ضد اتباع هذه الفلسفة و ابرزهم هيباتيا التي قتلها مجموعة من المتعصبين كان من ضمنهم افراد من هذه الجماعة، و في السطور التالية سأذكر بعض اعمال كيرلس الأرهابية التي قام بها في فترة كرازته.
1. أول أعمال كيرلس الإرهابية كانت اغلاق كنائس النوفاتيين في الإسكندرية و طردهم من المدينة، حيث يقول المؤرخ سقراطيس الذي ارخ لفترة كيرلس انه قال “اغلقوا كل كنائس النوفاتيين في الأسكندرية و خذوا كل لوحاتهم و اثاثهم و كل ممتلكات اسقفهم “ثيومبتوس” ، و النوفاتيين هم اتباع الاسقف نوفاتس الذي كان معاصرا لأضهاد الإمبراطور “دكيوس” (249-250م) و اثناء هذا الأضهاد قام العديد من المسيحيين بالتظاهر بترك المسيحية و بعد انحسار موجة الأضهاد عادوا إلي دينهم مرة اخري و لكن فوجئوا برفض كنيسة روما لهم و لكن الأسقف نوفاتس قبل ايمانهم و كانت سياسته معهم اكثر لينا، و قد ظل رفض الكنيسة للنوفاتيين حتي بعد وفاة نوفاتس علي الرغم من عدم وجود ما يشوب ايمانهم و ذلك بسبب أنه كان هناك صراع علي الكرسي البابوي في روما و كان نوفاتيس طرف به مما اضطرهم إلي الأنفصال، و هذا يثبت أن الكنيسة كانت تهتم لأحقادها الشخصية اكثر مما تهتم بمصلحة الرعايا و ايمانهم، و قد اعاد كيرلس الحرب عليهم من جديد بدون سبب واضح.
2. ايضا من الأعمال المشرفة التي ابتدأ بها كيرلس عهده كان هجومه علي الجالية اليهودية في الأسكندرية و التي كان عددها ما يقرب من 40 الف يهودي، و ما حدث أنه في ليلة احد الأيام سرت اشاعة ان حريق قد نشب في احدي كنائس الإسكندرية، و عندما اتجه حشد من المسيحين لأطفائها هجم عليهم بعض اليهود و قتلوهم، فقام كيرلس بحشد اتباعه من الرهبان المسلحين و البارابولاني و قاموا بالأستيلاء علي المعابد اليهودية الموجودة في الأسكندرية و طردوا كل تعداد اليهود الموجودين في المدينة و استولوا علي ممتلكاتهم و دمروا منازلهم، و في الحقيقة فأن هذه القضية شائكة و يكتنفها الغموض فهي مؤكدة الحدوث إلا أن دوافعها غير منطقية، فأن قصة حرق اليهود للكنيسة و قتل المسيحيين الذين حاولوا اطفائها لم تذكر الا في المصادر المسيحية، و هي قصة غير منطقية فلماذا يقوم اليهود و هم أقلية بأثارة الأغلبية المسيحية ضدهم ؟؟؟ و لكن يبدوا انها قصة ملفقة لتبرر ما فعله كيرلس في الجالية اليهودية التي من الأرجح ان خلافه معها هو احد مراحل صراعه مع اوريستيس الحاكم المدني الذي كان يحظي بدعم و تأييد يهود الأسكندرية لهذا اراد كيرلس الخلاص منهم.
3. بالطبع كان هذا التدخل السافر من كيرلس في اختصاصات الحاكم غير مقبول، فهو لا يملك السلطة لطرد مواطنين من المدينة و لكن أمام قوة كيرلس المتمثلة في اتباعه الغوغاء المسلحين من الرهبان و البارابولاني، و خوفا من اثارة الفتنة اذا استخدم القوة العسكرية لكسر شوكتهم لم يجد بدا الا الشكوي للأمبراطور ثيوديسيوس الصغير (408-450م) و الذي كان مجرد طفلا في الرابعة عشر من عمره، لذلك لم يجد كيرلس صعوبة في اقناعه بأن اليهود قد اجرموا في حق المسيحيين و استقر الأمر بالشكل الذي اراده له كيرلس، و لكن العجيب انه بعد شكوي اوريستيس للأمبراطور بفترة بسيطة، قام جماعة من الرهبان بالتهجم علي عربة أوريستيس اثناء سيرها في شوارع الأسكندرية و قام أحد الرهبان و يدعي “أمونيوس” برشق أورستيس بالحجارة مما تسبب له بجروح بليغة ثم قام رجال الحاكم بالقبض علي الراهب و قتله، فهل كان ذلك عمل فردي إم تم بأيعاز من كيرلس كنوع من انواع الدروس حتي يتعلم أوريستيس الا يقف في طريقه مرة أخري ؟؟؟ علي الرغم من عدم وجود نص تاريخي يقطع بتورط كيرلس في هذه الحادثة إلا أن رد فعله علي ما حدث يدل علي أن الحادث كان علي اقل تقدير حائز علي رضائه، فقد اعتبر ما حدث جريمة في حق الراهب المقتول و حضر مراسم دفنه و جنازته بنفسه و قام بألقاء خطبة اثناء الجنازة اعتبر فيها أمونيوس ثائرا و شهيدا و قام بتغيير أسمه إلي “ثاوماسيوس الرائع”.
4. لم يكتفي كيرلس بالأرهاب داخل مصر فقط بل مارس ايضا ارهابه الفكري خارج مصر، و من اهم ما يرتبط اسمه به هو كفاحه ضد “هرطقة” نسطور أسقف القسطنطينية، و لا يهمني هنا عرض افكار نسطور إلا أنها كانت تتمحور حول رفضه استخدام لقبTheoticos و التي تعني “حاملة أو أم الأله” لوصف مريم العذراء و اكتفي بأستخدام لقب “حاملة أو أم المسيح” و قد ادي ذلك إلي اثارة الجدل حول طبيعة المسيح (ناسوته + لاهوته)، و قد نصب كيرلس نفسه كحامي حمي المسيحية في هذا الجدال و قام بتقليب الأمبراطور الطفل “ثيوديسيوس” علي نسطور و اوعز اليه أن يدعو لأقامة مجمع كنسي، و لم يكتفي بذلك بل ارسل ايضا إلي بابا الفاتيكان “سليستين الأول” يقلبه علي نسطور، و لم يحتاج الكثير من الجهد فقد كان سليستين ناقما اصلا علي نسطور بسبب صراع سابق بينهم فقام سليستين بعقد مجمع مكاني في روما قام فيه بأدانة أراء نسطور، كما قام كيرليس بأقامة مجمع مكاني هو الأخر في الإسكندرية قام فيه بلعن نسطور، و أمام هذا الخلاف لم يجد الأمبراطور ثيوديسيوس حلا سوي الدعوة لمجمع مسكوني للنظر في الأزمة و قام بالدعوة هو و الأمبراطور “فالنتيان الثالث” (إمبراطور القسم الغربي من الإمبراطورية) إلي مجمع مسكوني في مدينة إفسوس عام 432م و تم تعيين كيرلس لرئاسة هذا المجمع، بأختصار لقد قام كيرلس بتأليب العالم المسيحي علي نسطور ووجهم لعقد مجمع كنسي برئاسته ليبتوا فيما سيفعلونه به، و بالطبع لن اخوض في تفاصيل المجمع إلا أن النتيجة كانت الحكم بحرمان نسطور و خلعه من منصبه و تم الحكم عليه بالحبس في خلوة لا يبارحها و لكن حدث عام 433م أن تم ضربه و اهانته في محبسه فتم نفيه إلي “بترا” في الأردن حاليا ثم تم نفيه إلي مصر حيث اقام بين الواحة الخارجة و أخميم حتي مات عام 439م.
5. كما ذكرت من قبل فأن درة أعمال كيرلس الإرهابية كانت قتل العالمة هيباتيا السكندرية، لقد كانت هيباتيا ابنة ثيون أحد العلماء القلائل المتبقين و الذين تخصصوا في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة و التي كانت تعتبر كبيرة الفلاسفة الأفلاطونيين كما كانت تدرسها إلي جانب علوم اخري مثل الرياضيات في “الموسيون” (جامعة الإسكندرية القديمة) لهذا فقد تتلمذ علي يديها العديد من الوثنيين و المسيحيين علي حدا سواء و الذين شغل العديد منهم مناصب عليا في الدولة، لذلك فقد كانت احدي ابرز الشخصيات في مجمتمع الإسكندرية القديم و هذا لما تمتعت به من علاقات تربطها بتلاميذها القدامي و الذين كان احدهم “اوريستيس” نفسه حسب بعض المصادر، و مع تولي كيرلس العرش البطريركي بدأ تدخله -كما أشرت من قبل- في السلطات المدنية للحاكم البيزنطي، و بدأ الصراع بينهم في الخفاء و قد كانت هيباتيا إحدي اهم ادوات تدعيم سلطة أوريستيس داخل المجتمع السكندري لما تمتعت به من نفوذ، لذلك فقد اخذ ينظر اليها كيرلس بعين الحسد و النقمة و اخذ يشدد من خطابه الوعظي الديني تجاه الوثنين بشكل عام و الفلسفة الأفلاطونية و هيباتيا التي كانت تشغل منصب كبيرة فلاسفتها بشكل خاص، و بالطبع فقد كان الأكثر تأثيرا بهذا الخطاب الديني المتشدد هم البارابولاني و الرهبان، الذين قاموا بأتهام أوريستيس بالوثنية (علي الرغم من كونه مسيحي و تم تعميده في القسطنطينية) كما اتهموه بأنه يساعد و يقوي هيباتيا الوثنية، و في أحد ايام الصوم الكبير عام 415م هاجم حشد مسيحي متعصب مكون من الرهبان و البارابولاني علي عربة هيباتيا و قاموا بأخراجها من العربة و جردوها من ملابسها ثم سحلوها و هي عارية في شوارع الأسكندرية إلي أن وصلوا بها إلي إحدي الكنائس و هناك قاموا بتقطيع لحمها عن عظامها إلي أن ماتت ثم اخذوا اشلائها و قاموا بأحراقها خارج أسوار المدينة، و قد كان هذا الحادث البشع له ابلغ الأثر في اثارة الرعب في قلوب من تبقي من علماء و فلاسفة الأسكندرية الذين رحلوا عن المدينة لتنطفئ شعلتها العلمية التي ظلت تضيئ العالم القديم لأكثر من 700 عام، كما كان لهذه الممارسات القمعية من ناحية الكنيسة ابلغ الأثر في دخول العالم إلي ظلمات العصور الوسطي و التي ظلت تخيم علي العالم بشكل عام و علي أوروبا بشكل خاص إلي حين بزوغ شمس عصر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي.
لم يكن كيرلس رجلا عبقريا و لكنه اعتمد علي جهل المسيحين في عصره، و قد وصف بعض المؤرخين كتاباته بأنها سطحية و مملة إلي اقصي درجة، كما أن استخدامه الخاطئ لمصطلحي Physis بمعني “طبيعة” و Hypostasis بمعني “أقنوم” كلفظين مترادفين كان له اكبر الأثر في اثارة الأرتباك و الخلط بين المشاركين في مجمع خلقيدونية المسكوني سنة 451م هذا المجمع الذي ادي الي انفصال كنيسة الأسكندرية عن كنيسة القسطنطينية كما ادي إلي ظهور ما يعرف بمذهب أصحاب الطبيعة الواحدة “مونوفيزيين”، و لكن تعود الشهرة التي حاذها كيرلس إلي شخصته و كاريزمته القوية و ايضا إلي صوته الواثق القوي الذي كان اهم اسباب شهرته كواعظ، و لكن اهم اسباب نجاحه علي الأطلاق كانت اتباعه الأقوياء الذين كان يحيط نفسه بهم لأرهاب خصومه و ايضا قرابته من البطريرك السابق له، تلك القرابة التي كفلت له النجاح و الترقي في المناصب الكنسية إلي أن وصل إلي كرسي البطريركية.
هذا المجرم هو أحد الأمثلة علي السياسة التي تبنتها الكنائس المختلفة في العالم المسيحي تجاه المخالف ابتداءا من عصر قسطنطين حتي بداية عصر النهضة و انحسار نفوذ الكنيسة، و من المثير للذكر أن الكنيسة قد رسمت كيرلس قديسا بعد وفاته نظرا لخدماته الجليلة التي قدمها للمسيحية، و فعلا فهو قد ازال كل اعداء كنيسة الأسكندرية في فترة توليه للكرسي البابوي التي استمرت 32 عاما، و إلي جانب ارهابه الذي عرضنا جزء منه في ما سبق فأنه ايضا كان مثله مثل كل الطغاة في التاريخ يقوم بحرق و تدمير كتب اعدائه، فقد قام بكتابة رسالة في الرد علي مؤلف الأمبراطور “جوليانوس المرتد” المسمي “ضد الجليليين” و الذي فند فيه الأمبراطور العقيدة المسيحية، و بعد أن كتب كيرلس اطروحته طلب من الأمبراطور ثيوديسيوس جمع كل نسخ كتاب جوليانوس و احراقها، و هنا لا يسعنا إلا أن نسأل إذا كانت اطروحته قد اقامت الحجة علي مؤلف جوليانوس إذا فما الداعي إلي تدمير الكتاب ؟؟؟ ألم يكن من الأفضل تركه حتي يعرف الناس فساد معتقده ؟؟؟ أم انه قد خاف من قوة حجة كتاب جوليانوس و لهذا طلب من الأمبراطور أن يدمره ؟؟؟ ، و إلي جانب دوره في تدمير مؤلف جوليانوس فقد قام ايضا بتدمير الكثير من مؤلفات “ديودورس” اسقف طرسوس (378-394م) و “ثيودور” أسقف المصيصة (392-428م) و اللذان اتهموا من قبل كيرلس بفساد أفكارهم و انهم هم الذين مهدو الطريق لأفكار نسطور الفاسدة، هذا بالأضافة بالطبع إلي تدميره للعديد من كتب الفلسفة و العلوم الهيلينية و منها مؤلفات هيباتيا التي لم يصلنا منها إلا النذر القليل.