فليعذرنى زملائى فى وزارة الصحة إذ قلت لهم إن مفاهيم مستشفيات التكامل والفلسفة التى قامت عليها غير واضحة فى ذهن الجميع.. وأن الخلط فى هذه المفاهيم قد أدى إلى وضع هذه المستشفيات فى دائرة المجهول، والحكومة كالعادة تريد حلاً يلمع من صورتها أمام البنك الدولى وتتناسى الأهداف القومية والفلسفة التى قامت من أجلها تلك المستشفيات، ولهذا تتركز الجهود الآن للبحث عن وسيلة للخروج من مأزق تردى الخدمة الصحية وكذا المؤشرات السكانية فى القرى والصعيد.. وبالمناسبة ليست مستشفيات التكامل وحدها محل تلك النظرة، فهناك الكثير من النماذج التى ينظر اليها كعبء يود التنفيذيون التخلص منه ومن متطلباتها دون فهم لوظيفتها.. وأؤكد أن كثيراً من التنفيذيين لا يعرفون ولا يفهمون: لماذا قامت تلك المستشفيات.. وما الذى يحدث تماما فى السياسات الصحية والسكانية والمشاكل التى تهدد مصر بل وهددت مصر فى الآونة الأخيرة؟.. وفى معظم الأحايين تُجابَه المشاكل بالقرارات العشوائية.. ونحن خير من يصنع الأسباب لزوم التعليل.. ولذلك ازدحمت معاجمنا السياسية بالكثير من الشعارات والشماعات مثل شماعة إسرائيل وشماعة الولايات المتحدة وشماعة الفساد وشماعة الامكانات وشماعة العهد البائد وغيرها، وبذلك تندثر حلول أى مشكلة تحت لواء «خطأ الغير» مما يجعل مواجهتها والعمل على إصلاحها صعباً أو حتى مستحيلا..
القضية الأكثر خطورة فى مصر أن هناك قرارات تتخذ دون فهم أو استيعاب لأبعاد هذه القضايا.. والسبب ليس غريباً ولكنه نتج من اختيار قيادات من خارج المواقع.. هذه القيادات عندما تدخل لمعركة العمل الفعلى تجد نفسها مغتربة عن المشاكل والسياسات والحلول، وحتى لا تظهر عورات القصور الفكرى والتخطيطى والإدارى تقوم القيادة بنبذ أصحاب الخبرة، وسرعان ما يهمش دور المؤسسة بفكر ضحل من مجموعة القيادات الجدد الذين وصل معظمهم واستمروا فى مواقعهم بالنفاق والمحسوبية بدلا من الاجتهاد والمحاسبة.. وعندما يصدر حُكم قضائى فإنه يعتمد فى المقام الأول على المعلومات التى تعرض على القاضي، وبالتإلى فمن غير المتوقع وجود تقييم مُحْكَم وقرار عادل عندما تختلط الأمور وتُعرض نصف الحقائق بينما يختفى النصف الثانى منها.. أمانة العرض وموضوعية الفحوى هما لب الموضوع والطريق الوحيد.. وأقول الطريق الوحيد لاتخاذ القرار الصائب وبتوفيق الله سبحانه وتعالي.. ولذلك أجد من المناسب استعراض بعض الحقائق الأساسية:
- الحقيقة الأولي: ما حدث فى عرض موضوع مستشفيات التكامل أخفى الجزء الأكبر من حقيقة الأمر فصرنا ندور فى دوائر مغلقة مما أوقع مستشفيات التكامل فى حيص بيص وانحصر الأمر فى البحث عن «محلل» يتولى أمرها وهو الأسلوب الأحدث شيوعاً فى مصر حين تتجه القيادات للتخلص من المشكلات والتحديات بالعهد بها إلى جهة أخرى لإزاحتها عن الكاهل أو ربما للمجاملة بدعوى التعاون- ترسيخاً للمنصب- بالرغم من وقوعها فى صميم التخصص والمهام.. مستشفيات التكامل يا سادة ليست للبيع أو القنص أو المتاجرة.. مستشفيات التكامل ليست ملكاً لهذه الحكومة أو ما سبقها أو من سيليها.. مستشفيات التكامل هى حقوق غير القادرين والمهمشين والأصحاء والمرضى فى القرى التى أهملت فيها التنمية وصارت أحد أبرز معالم التفرقة فى مجتمع ظالم.. والمستشفيات العامة طالما كانت محل اطماع الكثيرين ولكن الله سبحانه وتعإلى استطاع أن يكف أيديهم عنها.. ولنا فى قصة مستشفى الأمراض العقلية والنفسية موعظة بل وغيرها من المستشفيات ولكن المقام لا يتسع للسرد..
- الحقيقة الثانية: عندما أتحدث عن مستشفيات التكامل فإننى لا أتكلم من منطلق صاحب رأي.. ولكن عن تجربة ومن واقع رؤية واستراتيجية وعمل منظم التف حوله العاملون بالصحة والسياسيون وممثلو الشعب وحقق المصريون حينذاك ما لم يحدث فى أى وقت آخر، وقد كان جزء من أدوات التنفيذ مستشفيات التكامل محل الحديث.. رؤية أتاحت الوقاية لكل أفراد الشعب وحمت الشعب أعظم حماية.. رؤية هبطت بالمؤشرات المتزايدة للسكان ووفيات الأمهات والأطفال.. رؤية حولت الصحة والسكان إلى أعظم استثمار لهذا الشعب فى حمايته من الأمراض وزيادة العمر المتوقع والرصيد الصحى له وخاصة فى الشباب.. هذه الرؤية كانت قفزة حضارية وضعت مصر عالمياً فى مستويات أداء عالية فى المجال الصحي.. فقفزت مصر عام ٢٠٠١ إلى المرتبة ٤٣ من ١٩١دولة وطبقاً لمنظمة الصحة العالمية.
ومن هذا الفكر أيضا كان مفهوم طبيب الأسرة وسجل العائلة الذى كان يعد من أجود المراجع للمعلومات الديموغرافية فى مصر.. فقد كان هناك تسجيل للسليم والمريض على السواء قام به خير شباب ورجالات ونساء مصر.. أعدوا للدور وتحمسوا له وقاموا به على أكمل وجه.. وتم تدوين مؤشرات حالة المنزل ووجود ماء نقى وصرف صحى من عدمه وكذلك مستوى التعليم والبطالة والتدخين وغيرها.. كم هائل من المعلومات جمعت بعناية لتقدمها وزارة الصحة لتنمية مصر بل ولم تبخل بها عن وزارات أو جهات أخرى مشاركة فى التنمية فالمصلحة واحدة أولاً وأخيراً.. وقد تم إنشاء ما يزيد على ألفي وحدة صحية منها ٤٥٠ وحدة أنشئت بالجهود الذاتية ونجح فريق إدارة وإنشاء طب الأسرة فى إدخال نظام متكامل لطبيب الأسرة فى أكثر من ألف قرية لتقديم العناية الصحية فى المناطق المحرومة على أعلى المستويات فى جمع المعلومات والنهوض بطب المجتمع.. ولكن سرعان ما أهمل المشروع بل وانتهي! جريمة كبرى فى حق مصر والمصريين.. ولسنا فى موضع توجيه الاتهام لمن وأد هذه الطفرة ولكن فى المقام الأول هو الإشارة إلى ما يمكن أن يئول إليه الأمر من خلال عشوائية اختيار القيادات وتدنى الفكر الذى أصبح غير قادر على استيعاب العمل العملاق.. بل أذهب إلى أكثر من ذلك أن هناك فكرا مغرضا لتحقيق أهداف بعيدة كل البعد عن الأهداف القومية، ولا يخفى على أحد كيف نتج عن بعض السياسات مشاكل رهيبة كلفت الدولة أضعافا مضاعفة.. أعود لأركز على أن التنمية البشرية هو سر النجاح.. وغياب التنمية البشرية هو بعينه سر الإخفاق.
- الحقيقة الثالثة: إن حقيقة «مستشفيات التكامل» تبدأ حينما ذهبنا إلى القرى والنجوع ووجدنا مشكلة كبرى فى غياب الخدمات الوقائية والسكانية والعلاجية ليس فقط فى بُعد المستشفيات المركزية ولكن فى التكدس والطوابير، ناهيك عن مستوى الرعاية المقدمة، فى الوقت نفسه كانت الزيادة المطردة فى عدد السكان تشير إلى استحالة استيعاب هذه الأعداد فى المستشفى المركزي.. ومن هنا كانت ضرورة خلق مستشفيات صغيرة كمنافذ للمستشفيات المركزية أطلقنا عليها مستشفيات التكامل.. والأمانة فى العرض تعود بنا إلى ما يسمى «بالمستشفيات القروية» وكانت فى عهد الوزير الفاضل الدكتور عبدالواحد الوكيل.. وبالرغم من أننى لا أنتمى إلى جيله الا أننى أعجبت برسالته العظيمة فى تقديم الخدمة المتكاملة للقرى والتى تشمل الناحية الاجتماعية والصحية والبيطرية كلها مجمعة فى مكان واحد وأيضا فى إيجاد خدمة علاجية للقري.. وكان أيضا الدكتور النبوى المهندس مبهرا ومؤثرا برسالته للرعاية الصحية فى القري.. ومصر دائما ولادة وسابقة بفضل الفكر السبّاق، وعندما أصبحت مسئولا عن وزارة الصحة كان همى الأول غير القادرين.. وكانت القرى والنجوع والمناطق النائية هى المحك الرئيسى لمن كان يهدف لخدمة المواطنين بحق.. ومن هنا كانت خططنا مبرمجة على أن مسئوليتنا هى كل أبناء مصر وعلى رأس الأولويات والمهام يأتى غير القادرين والطبقات البسيطة والدنيا.. وهكذا أصبح كهدف قومى هو تقديم خدمة متكاملة لهذه القرى المتجاورة، ودرسنا بعناية الاحتياجات فى هذه القرى مع القيادات الصحية وممثلى الشعب والمجتمع المدنى والأهالي.. ومن خلال دراسة الاحتياجات كانت هناك حاجة ملحة لغرف ولادة نظيفة وعمليات صغرى ووحدات للغسيل الكلوى وخدمات الطوارئ.. وجاء إرساء مستشفيات التكامل (جزء منها كان المستشفيات القروية) ليترجم ذلك المفهوم الجديد للخدمة المتكاملة التى استحدثت لتقدم الخدمات الوقائية والسكانية والعلاجية الأساسية ولتحقق أيضا ترابط هذه الخدمة فى شبكة متكاملة مع الوحدات الصحية والمستشفيات المركزية.. هذا الربط كان يهدف إلى تخفيف الضغط على المستشفيات المركزية ولرفع معاناة المريض فى الوصول إلى المستشفى المركزى البعيد بالرغم من أن أحد وكلاء وزارة الصحة يصرح دون خجل «وإيه يعنى لما المريض يمشى عشرة كيلومترات للمستشفى المركزي» وأنا لا أحتاج التعليق على مثل هذه السقطات التى نزعت الرحمة وهى من صميم توجه وزارة الصحة و«شُغْلِتْها»..
وفى إطار عمل شبكة متكاملة للصحة بالريف والصعيد تم ربط المستشفى المركزى مع مستشفيات التكامل المحيطة به ليكون المركزى مسئولا عن الإشراف وتحسين الأداء فى الأقسام العلاجية وتوفير التدريب اللازم للكوادر الشابة من الاخصائيين بمستشفيات التكامل.. وكانت الفكرة أن مفهوم تقديم الخدمات المتكاملة العلاجية والوقائية وتنظيم الأسرة سيرتقى بالأداء ويسهل للمواطن الحصول على الخدمة وخاصة فى ضوء تنمية العمل فى المستشفى من خلال لائحة العلاج الاقتصادى والذى يوفر حوافز للعاملين ولصيانة الأجهزة والاحلال والتجديد.. وفى نفس الوقت يقوم بخفض التكلفة التى تتضاعف حينما نفصل بين الوحدة الصحية والمستشفى القروى ووحدة تنظيم الأسرة.. وأيضا لاستخدام آلية إتاحة العلاج كأداة جذب للمريض والسليم على السواء، بينما يعد الأخير محورا هاما لحماية مصر بخلق جيل من الأصحاء وهو التوجه العالمى الذى تسعى إليه كل دول العالم ممن يؤمنون بأهمية التنمية البشرية وعلى رأسها الدول المتقدمة.. فالنجاح الحقيقى إذا لا يأتى إلا من خلال تطوير العنصر البشري.. فتدريب وتحفيز الأطباء والممرضات بإيجاد عمل لهم فى هذه المناطق وزيادة التخصص وجذب الأطباء للمناطق النائية وعمل تدريب وشهادات متخصصة لهم- كان آلية لتقديم الرعاية الصحية بل وكان جزءا من منظومة تطوير الخدمة بقرى مصر وصعيدها..
والغريب أن وزارة الصحة تشكو من نقص الكوادر البشرية لمستشفيات التكامل فى الوقت الذى تكتظ فيه القاهرة والإسكندرية بها.. القضية هى سوء التوزيع.. وعدم وجود سياسات تحفيزية للأطباء.. لا يمكن أن تكون هناك نهضة صحية والدولة لا تستطيع إرضاء الأطباء والعاملين بالصحة من خلال سياسات متوازنة.. نحن نعود إلى ما كانت عليه أوضاع القوى البشرية قبل ١٩٩٦..
- الحقيقة الرابعة: أنشأت هذه المستشفيات فى العهد الذى يطلق عليه اسم العهد البائد.. وفى ذلك العهد كانت هناك سياسات صحية ناجحة، سياسات وضعت فى مقدمة اعتباراتها غير القادرين فى القرى والنجوع والعشوائيات.. ولا يخفى أن كانت هناك نفس المحاولة منذ ثمانى سنوات لبيع هذه المستشفيات، ورفض ممثلى مجلس الدولة الوطنيين هذا الأمر حينذاك مثلما رفضه أيضا المستشار القانونى لوزارة الصحة نظرا لعدم قانونيته.. وخرج مسئولو الصحة المتحمسون لبيع مستشفيات التكامل ليس فقط بمؤشرات صحية وسكانية سيئة ولكن أيضا بانهيار الخدمات، وأقول لهؤلاء «لا يغرنكم بالله الغرور».. عليكم أن تفكروا الآن فى المأزق الخطير الذى وقعتم فيه.. أنتم فى حفرة المشكلة السكانية.. وفى مطب هبوط مؤشرات الرعاية الصحية.. وفى مأزق تعذر العلاج لغير القادرين.. وفى انحدار توفير الدواء وسعره.. وفى مصيبة معاناة وعدم رضاء المريض قادر أم غير قادر.. وفى نفس الوقت انت تفرط وتهدر أدوات نجاحك وأدوات حماية هذا الوطن وشعبه حين يظهر علينا أحد مسئولى وزارة الصحة مؤخرا ليبشر بأنهم سيعطون بعض من هذه المستشفيات إلى القوات المسلحة والشرطة! نحن إذن لسنا فى حاجة إلى وزارة صحة وسكان! وعلى الرغم أن ذلك الأمر يتطلب تعديلاً دستورياً إلا أن القضية أعمق من قضية مستشفيات التكامل.. انها قضية ضعف مسئولى الصحة وعدم وجود رؤية لتبعث الأمل فى «لملمة» ثم تحسين أوضاع انهيار الخدمة الصحية والانفجار السكانى الذى فاق الخيال.. المشكلة السكانية التى دفعت شباباً فى عمر الزهور بلغ منهم الإحباط ما جعلهم يقفزون إلى البحر مخاطرين بحياتهم طلبا للرزق.. المشاكل الصحية التى جلبت لنا الأمراض والتى جعلت مرضى الغسيل الكلوى يموتون أثناء رحلة بحثهم عمن يقبل علاجهم.. أن لدى اعتقادا راسخا أن القصور الفكرى أقسى على هذا الشعب من قصور الامكانات.. أنتم بعيدون عن الرؤية التى تخلق السياسات الصحية والسكانية الجديرة بهذا الشعب..
- الحقيقة الخامسة: إن مستشفيات التكامل نعمة من عند الله لهذه الحكومة كى تثبت أنها فعلت شيئا ملموسا لغير القادرين.. فلو سألنى أحد عن أولوية الصحة فى مصر لكانت إجابتى «القرى والنجوع» فالفلاح الذى كان لا يشكو بالأمس أصبح لا يحتمل المعاناة التى يعيشها الكثير منهم فى الغسيل الكلوى أو مريض الجراحات البسيطة أو الكبيرة أو مريض السكر والقلب والصدر وغيرهم.. والفلاحة المصرية قد تكون فريسة للمرض الذى يمكن منعه ببضعة قروش.. ولك أن تعرف أن هذه الوحدات كانت تشمل خدمات تعليم الكبار وتنمية المرأة ونادى صحة المرأة والتأهيل المهني.
المريض فى المستشفيات المركزية يقف ساعات فى الطابور وناهيك عن سوء المعاملة نتيجة التكدس ويدفع المريض فى مستشفى منوف المركزى خمسة وثلاثين جنيهاً للكشف وعليه الانتظار إذا كانت له عملية والبديل أن يجريها فى القطاع الخاص.. من أين؟ أما إذا كان مريضاً بالفشل الكلوى فأمامه رحلات من العذاب.. والسبب بسيط لأن الدولة لم تأخذ فى الاعتبار الزيادة السكانية ولم تركز على استمرار برامج نجاحات الرعاية الصحية.. وخلال فترة عملى وزيرا للصحة استوعبنا كل مريض دون أن يُطلب منه شيء.. وكان أداء الأطباء والممرضات والفريق الصحى وساما على صدر مصر.. وعندما غاب التخطيط السليم وفشلت الادارة عدنا لخط الصفر.. وأصبحنا ندفع بالحجج الواهية..
- الحقيقة السادسة: إن ما قيل عن أن مستشفيات التكامل غير مجهزة.. فهذا غير حقيقي.. هذه المستشفيات كانت مجهزة وبها غرف عمليات واستقبال.. وكانت تكلفة التجهيزات تبلغ حينذاك ٥٥٠ ألف جنيه وكان هناك تمويل من معونات وتبرعات ثم آل الأمر إلى مفارقات أغرب من الخيال:
ـ قفز التجهيز للمستشفى الواحد إلى أربعة ملايين من خلال شركة واحدة محتكرة..
ـ ولم يلتزم الجميع بقرارات التسليم والتشغيل ضمانا لحقوق وزارة الصحة كما كان من قبل..
ـ وامتدت الفوضى بمديريات الصحة بنزع الأجهزة من المستشفيات بحجة إعادة توزيعها..
ـ وصدرت تعليمات بوقف العمل بهذه المستشفيات لأنها غير مطابقة لمواصفات الجودة.. وكان هذا هو المحلل الأعظم لسفك دماء هذه المستشفيات توطئة لطرحها للبيع منذ ثمانى سنوات.. وقد رأيت بعض من هذه المستشفيات وعلمت أنه قد تم نزع الأجهزة منها لأنها لا تليق بالجودة المطلوبة آنذاك.. الطريقة التى تم التعامل بها مع بعض هذه المستشفيات كانت أقرب إلى الهمجية.. أى جودة هذه التى أغلقت الكثير من تلك المستشفيات وحرمت المريض من الخدمة الصحية! هل رأيتم عيادات الأطباء التى يتم فيها العمليات فى المراكز النائية والقري؟ ولنفرض أن المراد هو زيادة العناية بإضافة رعاية مركزة أو إضافة تكييف أو غيره.. هل هذا مبرر لنزع الأجهزة ونقلها إلى المستشفيات الأخرى أو إلى المخازن! وأى جودة هذه التى تترك المريض يفتك به المرض؟ وأين البديل لذلك؟ هل سيترك الناس يتسولون على القنوات التليفزيونية.. هذا لا يليق بمكانة مصر ولا بكرامة شعبها حتى البسطاء والمحتاجين منهم فحق العلاج لهم حق أصيل على الدولة..
- الحقيقة السابعة: اعطاء هذه المستشفيات للجيش والشرطة
علينا أن نكون عادلين.. الجيش حقق نجاحات لأن سمات الكوادر البشرية والقواعد به تساهم فى ضمانات النجاح، ولكن الجيش والشرطة لن يضعا الكوادر المدنية الأخرى على الرف.. والملاحظ أن كافة الاجراءات الاستثنائية عادة ما تنتهى بنتائج غير جيدة ناهيك عن الإثارة التى قد تسببها.. كدولة متحضرة لابد من الاعتراف بالتخصص المؤسسى والمهني، فلا يجب أن نشكك فى قدرات القطاعات المدنية، وإذا كان على سبيل المثال أن جزءا من نجاح المؤسسة العسكرية يكمن فى روح انتماء أفرادها لتلك المؤسسة العسكرية وأكبر من ذلك الانتماء لمصر، فأزعم بأنه لن يكون هناك تأثير أقل نحو تحقيق النجاحات حينما نتحدث عن انتماء الفريق الصحى بقطاعاته المختلفة من أطباء وهيئة تمريض وفنيين وموظفين وعاملين إلى مؤسسة وزارة الصحة يظله أيضا الانتماء لمصر الأم.. الأحرى هو أن تُحسن القواعد للعاملين فى قطاع الصحة والاستجابة لطلباتهم المتواضعة، وأن تنقل للقواعد الخبرات التى حققت فى مجال الصحة من قبل.. ولنتذكر بأنه كان وقد ثبت مسبقاً فاعلية أدائهم وإبداعاتهم وجديتهم إذا ما وضعوا على الطريق الصحيح وتم لهم الاعداد والتدريب المطلوب.. والجيش خلال الثورة أثبت أنه جزء أصيل منها ولا يجب الدفع به فى مواجهة كل مشكلة للقطاع المدنى لأن الجيش يتولى أصعب المهام وهى حماية الوطن وحدوده.. وأرى أن القوات المسلحة يمكنها المساهمة فى الرسالة الانسانية فى المشاكل العلاجية الملحة بتخصيص نسبة من الأسرة بالمستشفيات العسكرية للعلاج المجانى لغير القادرين وخاصة فى هذه الظروف الاقتصادية الصعبة.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مستشفيات التكامل ليست بمستشفيات مثل مستشفيات القوات المسلحة أو الشرطة، هى مستشفيات تمارس الرعاية الأساسية وتنظيم الأسرة، وبعض القيادات فى الصحة كانت تصرح بتصريحات مخجلة فى هذا الإطار بصورة تنم عن عدم الفهم والاستيعاب لدورها.. والأجدر بهم تفهم فحوى المشاكل بطريقة أكثر دقة وبحيادية.. ولا يمكن أن يثمر المستقبل إذا لم تؤخذ تجارب الماضى الناجحة فى الاعتبار.
- الحقيقة الثامنة: عن الأطروحة الاستثمارية وخطورتها.. حيث قيل فى المثل الشعبى «عندما يفلس الخواجة يدّور فى دفاتره القديمة» وأنا أقول إن الحديث عن الاستثمار فى مستشفيات التكامل بعيد كل البعد عن قواعد الاستثمار سواء بالبيع أو التأجير أو الادارة وهو ما يسمى «استثمار الأزقة» المنهِك للأهداف القومية.. والسبب بسيط.. نحن فى أزمة سكانية وصحية خاصة فى مجالات الوقاية وتعزيز الصحة وتنظيم الأسرة.. أين؟ فى القرى والصعيد.. أنت تريد إذن أن تزيد من ضعف السياسات التى جرت عليها مصر منذ الاصلاح الصحى والتى جعلت الوقاية والرعاية الأولية والرعاية السكانية هى المكون الاساسى لصحة الشعب، وأنا أحذر من عواقب ذلك حيث أنك الآن محاط بالأوبئة التى قد تفتك بالكثيرين.. واللعب بالنار قد يؤدى إلى الكوارث.. ونحن مازلنا فى محن انفلونزا الطيور والخنازير وغيرها، ويجب أن نكون على استعداد لأى وبائيات قد تستجد.. ويجب أن أشير إلى أن ما نسمعه ليس هو بأول فكر يطرح للاستثمار الذى غابت عنه الموضوعية.. فهيئة المصل واللقاح تجيء نموذجا صارخا لتداعيات مثل هذا الإجراء وخدمات الدم أصبحت مصيبة كبرى عندما تم تحويلها إلى شركات.. وعندما يهرع البعض إلى محاولة طرح مشروع استثمارى من خلال بيع أو تأجير المستشفيات القومية فإنه فى واقع الأمر يقوم بخلق مطبات للشعب المصرى لمجرد الفشل فى إقامة مناخ استثمارى جاذب للتنمية.. ونحن نضحى بممتلكات الشعب الخدمية لنعيش فى وهم خلق استثمارات.. هذه هى القضية الأساسية وهو إفلاسنا فى القدرة على جذب الاستثمارات التى تتناسب مع مكانة مصر.. وخلال فترة عملى بالحكومة لم أشهد أن التنمية تشكل أى أهمية أو أهداف خلال عملية خصخصة القطاع العام.. ويبدو أن المشهد والفكر ما زالا مستمرين.
إن المستثمر الذى يضع أمواله فى مستشفيات التكامل لن يضعها لخاطر عيون الفقراء حلا لمشاكلهم بل هو يضعها بهدف الربح.. وهذا مفهوم.. وأن المستثمر لن يهمه الوقاية أو الرعاية السكانية لأن هذا دور الدولة الأصيل ولا تظهر نتائجه الا بعد عشرات السنين بينما لا يحقق للمستثمر العائد المطلوب وهو يبحث عن الربح السريع.. والتحول النهم الذى حدث للدولة جعلها تفكر بنفس عقلية البحث عن الربح السريع، إلا انها وكما يشرحه إخواننا فى الصعيد بحكمة بالغة «تخلط أبوقرش على أبوقرشين»!
ما هو الحل؟
مستشفيات التكامل تمثل فرصة واعدة لهذه الحكومة وإلى أهل الخير لتنصف غير القادرين.. أنتم تتكلمون عن أن الدولة ستقضى على مرض أو مرضين.. طيب والباقى ممن ابتلاهم الله بمرض ليس على قائمة الحكومة.. أين يذهب إذا كان مرضه خارج قائمة وزارة الصحة، ولك أن تسمع وتتخيل المعاناة فى استخراج قرارات العلاج أو فى استخدامها فى المستشفيات حيث إنهم ليسوا محل ترحيب فيوضع أمامهم العوائق من خلال الحاجة إلى مستلزمات طبية ودم وصمامات ومفاصل ومسامير وغيرها يجب أن يسدد ثمنها..
إن الحكومة تستطيع أن تعيد النهضة الصحية من خلال برنامج طبيب الأسرة ومستشفيات التكامل كورقة للمصالحة مع غير القادرين لأن الشعب الصبور يدرك أبعاد المسئولية والتحديات ولكن بين حين وآخر يحتاج إلى جرعة من الصحة مثل جرعة رغيف العيش.. يحتاج إلى رعاية فى وقت أزماته الصحية.. بل والحكومة فى حاجة ماسة إلى ضبط إيقاعها فى قضية الصحة والسكان، ولو وضعت الحكومة برنامجا أشركت فيه القادرين لرعاية قراهم ووضع أسمائهم على هذه المستشفيات لتغير الحال وهربت الغُربان التى استولت على الكثير من خير مصر..
الحفاظ على مستشفيات التكامل وحمايتها تمثل فرصة نادرة وواعدة لهذه الحكومة، وورقة سياسية رابحة من وجهة النظر الحكومى وضرورة إنسانية توجه لغير القادرين.. لقد طلبتم من الشعب المصرى «الصبر» على الظروف الاقتصادية.. و«التحمل» إزاء الاجراءات الصعبة.. ولكن يجب أن يكون هناك شعاع نور وطاقة أمل للناس لإزاحة قليل من المعاناة ورفع معنوياتهم.. وهو السبب الأول لضرورة احتضان مستشفيات التكامل..
أما السبب الثانى فهو واقع التردى فى السياسات الوقائية والسكانية.. مستشفيات التكامل هى الاستثمار الأمثل فى الوقت الحاضر.. ودون مبالغة فنحن نغرق فى مستنقع كبير اسمه الانفجار السكاني.. فلا يمكن أن تتحمل مصر زيادة سكانية مطردة تقارب الثلاثة ملايين نسمة سنويا.. و الأمل فى سياسات ذات تأثير لن يأتى الا من خلال تعويض ما فقد خلال السنوات العشر الماضية حدث فيها انتهاك للصحة والسكان وتقليل من قدرها وإلغاء البرامج الناجحة فيها.. يجب إعادة كل هذه البرامج إذا كنا حقيقة جادين فى الاستعداد لمواجهة مشاكل الصحة والسكان.
أما السبب الثالث- وفى اعتقادى هو الأول عن جدارة إذا ما أعيد الترتيب- فهو الرحمة.. ندعو إلى الرحمة من خلال انتهاج السياسات الصحية الناجحة التى سبق وجعلت لكل مريض مأوى، وجعلت من الحكومة أماً أو أباً يهرع اليه المرضى والأهالى فى وقت الشدة.. الرحمة أيضا تتطلب إعادة بناء الثقة بين الحكومة والفريق الصحي.. ويشهد الله أن الفريق الصحى كان يؤدى بالرغم من ضعف الامكانات، وكان مثلا وقدوة وعون للمواطنين.
وفى النهاية تبقى كلمة
مستشفيات التكامل يجب أن يعد كمشروع قومى ليشارك فيه الجميع.. الحكومة والأهالى والصناديق المختلفة والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني.. لقد عاصرت المصريين وهم يقدمون العطاء لبناء الوحدات الصحية ومستشفيات التكامل ومراكز الأورام.. عطاء لا حدود له،٤٥٠ وحدة صحية بالجهود الذاتية ومئات الملايين للمشاكل الصحية على اختلافها.. ويستمر الآن العطاء لكنه يذهب لأصحاب القدرات الإعلامية.. وتتدفق المليارات عليهم ناسين أهل القرى والنجوع.. أليس من حقوق الزكاة أو الصدقات أن توجه إلى المجتمع الذى يستحق الزكاة، أليست القرية أحق بكثير من المدينة ومن العاصمة، أليس هناك حق فى ذلك لمريض الفشل الكلوى والمريض الفقير الذى لا يختار مرضه بل يبلى به، وكذا المكدسون فى صفوف لا نهاية لها أمام المستشفيات.. وأين الأزهر والمؤسسات الدينية ودورها فى مسيرة الرحمة فى القرى والنجوع والطبقات المتدنية التى لا يصلها رفاهية الطرق الجميلة والجامعات الجديدة والمترو الحديث والصرف الصحى والمياه النقية وغيرها.. أين هذه الجهات المتعددة من تلك الطبقات التى عاشت فى الطين ولم تطلب الكثير ولم تشك ولم تنطق الا بحمد لله.. ونريد أن ننتزع منها مستشفيات التكامل.