ثلاث كوارث قاتلة باسيوط.. أولها: تلوث الهواء بمواد مشعة ناتجة عن استخدام زيت المازوت وقودًا لتشغيل محطات توليد الكهرباء.. أما الثانية فهي تلوث مياه الشرب التي يتم ضخها من محطات تحلية مجاورة أو قريبة من محطات الكهرباء، وتأتي الكارثة الثالثة بالتخلص من مياه الصرف الصحي عن طريق مصارف تصب مباشرة في مجري النيل في مناطق قريبة من محطات مياه الشرب.
ونأتي للكارثة الأولي.. فقد حذرت دراسة علمية قام بها فريق بحثي مصري من خطر تلوث الهواء بمواد مشعة ناتجة عن استخدام المازوت وقودًا لتشغيل محطة توليد كهرباء الوليدية بأسيوط، وتم نشر الدراسة في مجلات علمية عالمية مُحَكَّمة ‘التحكيم يتم بمعرفة لجنة علمية’.
ويضم الفريق البحثي الذي أجري الدراسة كلًا من أ. د عبد الله إبراهيم عبد المجيد، الأستاذ بقسم الفيزياء بكلية العلوم جامعة أسيوط ‘وكيل الكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث سابقًا’، وأ.د.محمد العزب حسن فريد أستاذ متفرغ بقسم الفيزياء، كلية العلوم، والدكتور هاني توفيق محمد الجمل المدرس بذات القسم، ومعهم باحث الماجستير بقسم الفيزياء محمد حسب النبي الذي يعمل حاليًا مدرسًا مساعدًا بإحدي الجامعات الخاصة، ومن كلية الهندسة جامعة أسيوط اشترك في الفريق البحثي أ.د محمود فرغلي بادي أستاذ الهندسة الميكانيكية، والحاصل علي الدكتوراه في دراسة تلوث الهواء، والمعار حاليًا لإحدي الجامعات اليابانية.
وقد أثبتت الدراسة العلمية أن مخلفات عملية احتراق زيت المازوت تؤدي إلي زيادة نسبه تركيز المواد المشعة في الرماد المتطاير بشكل كبير، وتؤثر علي التربة والمياه الجوفية.. وأثبتت التحاليل أن التلوث في عينات المياه الجوفية من المناطق القريبة من المحطة يفوق المعدلات العالمية بنحو ألف مرة تقريبًا، مما يؤدي إلي زيادة مستوي التلوث بالنشاط الإشعاعي في البيئه المحيطة.
وأثبتت الدراسة كذلك أن الرماد المتطاير من المحطة يحتوي علي المعادن الثقيلة كالفناديوم والكادميوم والرصاص والحديد، وهذه العناصر قاتلة وتسبب الكثير من الأمراض لسكان المناطق المحيطة بمحطة كهرباء أسيوط، وفي مقدمتها الإصابة بسرطان وأمراض الرئة.
ولأن الدراسة أُجريت أولًا علي محطة كهرباء الوليدية فقد بدأ الفريق البحثي في تحذير المسئولين في محافظة أسيوط، قبل أن تبدأ المحافظة في تنفيذ مشروع محطة المياه الجديدة المجاورة لمحطة الكهرباء مباشرة – أي قريبة من مصدر التلوث الإشعاعي- وقام أعضاء في الفريق البحثي بتسليم نتائج الدراسة للمسئولين في محافظة أسيوط، إلا أن الرد غير الطبيعي جاء في الإسراع بتنفيذ المراحل الأولي من محطة المياه، مع الوعد بتشكيل لجنة لبحث المخاطر التي حذَّرت منها الدراسة!!
وبعد أن صارت إنشاءات محطة المياه أمرًا واقعًا.. أصبحت الكارثة الواحدة في أسيوط كارثتين.. الأولي في التلوث الإشعاعي، والثانية في مشروع محطة المياه الجديدة التي لا يفصلها عن مصدر التلوث الإشعاعي الذي يلحق بمياه النيل والمياه الجوفية سوي بضعة أمتار.. وقد بدأ تنفيذ المحطة دون إجراء الدراسات اللازمة لمعرفة مدي ملاءمة الموقع المختار ودون دراسة لتقييم الأثر البيئي، ودون النظر إلي مخاطر التلوث عن طريق الرماد المتطاير من مدخنتَي محطة الكهرباء، وكذلك التلوث بمياه الصرف الصناعي الناتج من وحدتَي الصرف الصناعي داخل المحطة والتي تحتوي أيضًا علي المعادن الثقيلة الذائبة وخصوصًا بعد غسيل الأفران.
ويؤكد الفريق البحثي أن الموقع المختار مخالف للقوانين والتشريعات التي تنظم أعمال الري والصرف وحماية الموارد المائية من التلوث والتدهور مثل القانون رقم 48 لسنه 1982 في شأن حماية النيل والمجاري المائية من التلوث، ومن ثم اللائحة التنفيذية التي اشترطت أن تكون مواسير صرف المخلفات الصناعية السائلة بعيدة عن مأخذ محطات تنقية مياه الشرب بمسافة 3 كيلومترات أمام المأخذ، وكيلومتر واحد خلف المأخذ.
سألت اللواء إبراهيم حماد محافظ أسيوط عن كارثة التلوث الإشعاعي الناتج عن محطة كهرباء الوليدية فقال: ‘إن الدولة والحكومة والمحافظ لا يمكن أن يسمحوا بأي تلوث يتسبب في ضرر للمواطن، وأكد المحافظ أنه تم تشكيل لجنة تضم المسئولين عن محطة كهرباء أسيوط والمسئولين في شركة مياه الشرب والصرف الصحي والشركة المنفذة لمشروع محطة مياه الوليدية، وجهاز شئون البيئة، ومديرية الصحة بأسيوط، وتم إجراء التحاليل اللازمة التي أكدت عدم وجود أي مخاطر، وقال اللواء إبراهيم حماد إن هناك بروتوكولًا موقعًا بين شركة كهرباء الوجه القبلي، وهيئة الطاقة النووية، وتقوم محطة الكهرباء بموجب هذا الاتفاق بإرسال الرماد الناتج عن المحطة إلي هيئة المواد النووية لفحصه، وقال محافظ أسيوط إن الناتج عن محطة كهرباء الوليدية مطابق لقوانين حماية البيئة ولا يهدد صحة المواطن، وقدَّم لي المحافظ خطابًا موجهًا من وكيل وزارة الصحة بأسيوط الدكتور أحمد عبد الحميد حسن، إلي مدير عام محطة كهرباء الوليدية بتاريخ 14 أبريل 2014 يؤكد فيه أن تحاليل عينات الصرف من المحطة علي نهر النيل مطابقة للقانون 48 لسنة 1982 بشأن حماية النيل من التلوث ‘وكيل وزارة الصحة عضو في مجلس إدارة شركة المياه !!!’، وسلَّم لنا المحافظ نسخة من التحاليل التي أُجريت علي مياه الصرف في تواريخ مختلفة، والتحاليل تمت بمعرفة مراقب صحة ثالث ‘!!!!’، وأكد اللواء إبراهيم حماد أن جهاز شئون البيئة باعتباره جهة رقابية أكد أن الغازات المنبعثة من مدخنتَي المحطة تتلاشي في الهواء علي ارتفاع 120 مترًا، أما الرماد المتراكم في قاعة المدخنة فيتم تحليله بمعرفة هيئة المواد النووية.
انتهي حديث اللواء إبراهيم حماد الذي استند فيه إلي ما سلمته له اللجنة الحكومية دون رجوع إلي الفريق البحثي، وقمنا بمراجعة ملف المستندات مقارنة بنتائج البحث وما تحت أيدينا من مستندات وتسجيلات مرئية لمواقع الكارثة، فتبين لنا أن التحاليل التي سلمتها اللجنة للمحافظ خاصة بمياه التبريد، ولا علاقة لها بمياه الصرف الصناعي التي تخرج من ماسورة ثانية مجاورة لمخرج التبريد، وهذه التحاليل تخالف نتائج تحاليل صادرة من المحطة ذاتها تؤكد ما ذهب إليه الفريق البحثي في جامعة أسيوط، كما أن هناك مراسلات من محطة الكهرباء إلي وزارة البيئة تعارض فيها وجود محطة المياه في موقع مجاور، ومن المدهش أنني وجدت لدي محافظ أسيوط وبعض كبار المسئولين في المحافظة معلومات غير صحيحة مفادها أن الفريق البحثي الذي حذر من كارثة التلوث الإشعاعي ليس به أي عضو هيئة تدريس بجامعة أسيوط!!!
ونحن الآن أمام دراسة علمية قام بها أعضاء في هيئة التدريس بجامعة أسيوط، في مواجهة تقارير حكومية تعتمد علي تحاليل قام بها مراقب صحة، واعتمدها وكيل وزارة الصحة الذي يشغل مقعدًا في عضوية مجلس إدارة شركة المياه!!
أما الكارثة الثالثة فهي المصارف التي تحمل مياه الصرف الصحي وتلقي بها في مجري النيل علي مقربة من محطات مياه الشرب، وتظهر هذه الكارثة بوضوح في أسيوط أيضًا وبالتحديد في مصرف الزنار الذي يربط بين محطة الصرف الصحي في عرب المدابغ بأسيوط ومجري النيل مرورًا بعدة مناطق سكانية، منها جزيرة الأكراد التابعة لمركز الفتح وهي منطقة قريبة من محطة كهرباء الوليدية، وقريبة أيضًا من محطتي مياه الشرب في الطوابية وبهيج، وهذا يعني أن مسار مياه الصرف الصناعي الناتجة عن محطة كهرباء الوليدية سيمر أولًا بمحطة مياه الوليدية المجاورة، ثم تلتقي بمياه الصرف الصحي من مصرف الزنار ثم تتجه إلي محطة الطوابية التي تخدم مركز ومدينة الفتح ومركز ومدينة أبنوب، وأسيوط الجديدة، وأيضًا محطة مياه الشرب في بهيج التي يتم التخطيط لأن تكون مصدرًا لمنطقة الوليدية التابعة لمدينة أسيوط، والتي تعاني تلوث مياه الشرب واختلاطها بالصرف الصحي في الآبار الجوفية القديمة، ولذلك تنتشر في الوليدية حالات الفشل الكلوي وأمراض السرطان وغيرها من الأمراض القاتلة، وجاءت مصيبة المصائب بالتلوث الناتج عن محطة الكهرباء، ومن بعدها محطة المياه!!
سألت المهندس محمد صلاح رئيس شركة مياه الشرب والصرف الصحي بأسيوط عن كارثة مصرف الزنار فقال: إن مياه الصرف الصحي في مصرف الزنار تمت معالجتها، وأن ما يظهر من آثار تلوث ستتم معالجته عن طريق محطة العشرين التي يجري العمل بها، وسوف تدخل الخدمة في نهاية عام 2014.
وأكد المهندس محمد صلاح في اتصال هاتفي أن تحاليل عينات مياه الشرب في محطتي الطوابية وبهيج تثبت سلامتها، وبالتالي لا خطورة علي صحة المواطنين!!!!
سألت المهندس محمد صلاح عن خطورة وصول الصرف الصحي إلي مياه النيل حتي لو كانت المياه معالَجة، فقال إن البديل هو الصرف في غابات شجرية، وهذا يتكلف أكثر من 400 مليون جنيه تقريبًا !!
ويبدو أن المهندس محمد صلاح يعتمد –أيضًا– علي تحاليل موظفي مديرية الصحة الخاضعين لرئاسة وكيل وزراة الصحة، وهو في ذات الوقت عضو مجلس إدارة شركة مياه الشرب!!!
ولا ندري هل نصدق ما ورد في شهادات موقَّعة من فني صحة أم نصدق الفريق البحثي العلمي، أم نصدق حالات الوفيات الناتجة عن الفشل الكلوي وأمراض الرئة والكبد الوبائي؟!!
وهذا هو التخدير والتبرير والإنكار بدلًا من المواجهة الحقيقية للكوارث التي تهدد حياة المواطنين.
ولكي نتعرف علي حجم الكوارث التي نتحدث عنها وتأثيرها علي حياة المصريين.. علينا أن نتساءل عن عدد محطات توليد الكهرباء التي تستخدم زيت المازوت كوقود في مختلف المحافظات، وعدد محطات مياه الشرب القريبة من محطات الكهرباء، كما نتساءل عن عدد محطات الصرف الصحي التي تتخلص من مياه الصرف في الترع والمصارف التي كان يتم استخدامها لأغراض زراعية وتنتهي بمصب في مجري النيل، ومنه إلي محطات مياه الشرب!!
والآن.. ما الحلول العاجلة؟!!
لن نطالب باستخدام الغاز بدلًا من المازوت في محطات الكهرباء، لاستحالة تنفيذ هذا الطلب في ظل أزمة الوقود.. ولكن نطالب بتركيب فلاتر لتنقية العادم الصادر من محطات الكهرباء.
أما عن كارثة تلوث مياه الشرب فلا حل سوي وقف العمل في أي محطات مياه شرب جديدة يتم إنشاؤها علي مقربة من محطات الكهرباء التي يتم تشغيلها بزيت المازوت!!
أما عن صرف مياه المجاري في مجري النيل فالحل هو تحويل هذه المياه غير النقية إلي غابات شجرية في المناطق الصحراوية، ومن ثم يتحول مصدر الخطر إلي مشروع اقتصادي يحقق عائدًا ماليًا كبيرًا !
هذه القرارات جميعها لا يمكن أن تصدر من محافظ أو وزير قد تحيط بها بطانة الإنكار والتخدير والتبرير، ولا يمكن لوزير أو محافظ واحد أن يجمع بين يديه الصلاحيات الكاملة لمواجهة هذه الكوارث.. ولذلك فإننا نضع هذه السطور بين يدي السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ونحن علي ثقة من صدور قرار رئاسي عاجل لإنقاذ أبناء مصر.
الكاتب الصحفى احمد هريدى